التصوف الإسلامي ودوره في بناء إنسان المستقبل (2)

الشيخ محيي الدين بن العربي

هنا نبدأ بمرحلة جديدة تمثل ذروة التطور في الفكر الصوفي ،وهي مرحلة الشيخ محي الدين ابن العربي      

يقول نصر أبوزيد في كتابه ( هكذا تكلم ابن عربي):(ترجع اهمية ابن العربي إلى انه يمثل قمة نضج الفكر الإسلامي في مجالاته العديدة من فقه ولاهوت وفلسفة وتصوف فضلاً عن علوم تفسير القرأن وعلوم الحديث واللغة والبلاغة..الخ….يمثل الشيخ الأكبرهمزة الوصل بين التراث العالمي و التراث الإسلامي من هذه الزاوية يمكن النظر لتراث ابن العربي بوصفه تواصلاً حياً خلاقاً مع التراث العالمي الذي كان معروفاً ومتداولاً في عصره سواء كان تراثاً مسيحياً أم يهودياً ، أو كان تراثاً فكرياً فلسفياً.)

  • فلسف ابن العربي نظرته الصوفية  إلى الكون والإنسان والوجود واعتمد على معطيات عديدة تشمل مبادئ رمزية وادخل فيها كثيراً من العناصر والمصطلحات الفكرية الرائجة عند الفلاسفة والصوفية
  • ابن العربي يحدثناعن الحكيم الصوفي العرفاني الذي هو اكثر خصوصية من الصوفي الاعتيادي والذي تجاوز المراحل الزهدية والسلوكية وصولاً إلى العرفان وبالتالي فهو المهيأ للوصول إلى مرتبة الإنسان الكامل يقول ابن العربي : إن الحكيم عبارة عمن جمع العلم الإلهي والطبيعي والرياضي والمنطقي وما ثم إلا هذه الأربع المراتب في العلوم وتختلف الطريق في تحصيلها بين الفكر والوهب وهوالفيض الإلهي، وعليه طريقة أصحابنا ( أي العرفانيون من الصوفية) ليس  لهم في الفكر دخول لما يتطرق إليه من الفساد والصحة  فيه مظنونة فلا يوثق بما يعطيه واعني اصحابنا أصحاب القلوب و المشاهدات والمكاشفات لا العباد ولا الزهاد ولا مطلق الصوفية إلا أهل الحقائق والتحقيق منهم لهذا يقال في علوم النبوة والولاية إنها وراء طور العقل وليس للعقل فيها دخول بفكر لكن له القبول خاصة عند السليم العقل الذي لم يغلب عليه شبهة خيالية فكرية يكون من ذلك فساد نظره ( الفتوحات ج:1 ص261) إن هذه التدرجات من الزهاد إلى العباد إلى الصوفية إلى خاصة الصوفية ، تحدد درجات الكمال ايضاً فهناك الكامل فالاكمل فالأكمل كل بحسب عمله
  • نجد أن ابن العربي قد فلسف مفهوم الإنسان الكامل وحدد صفاته وأيضاً أوضح حقيقة الإنسان وقيمته في الوجود ونأتي إلى نصوص متنوعة من الفتوحات توضح هذا المفهوم يقول:
  • (اعلم أن العالم كله لولا الإنسان الكامل ماوجد وانه بوجوده صح المقصود من العلم الحادث بالله والوجود الحادث الذي هو على صورة الوجود القديم ،فإن العلم بالله المحدث الذي هو على صورة العلم بالله القديم لا يتمكن أن يكون إلا لمن هو خلقه على الصورة وليس غير الإنسان الكامل ولهذا سمي كاملاً وأنه روح العالم و العالم مسخر له علوه وسفله)
  • ويميز بين الإنسان التي تسيطر المادة على روحه وهو الإنسان الحيوان وبين الذي تسيطرروحه على المادة وهو الإنسان الكامل والناس مراتب بين هذا وذاك فيقول:
  • ولما لم يتمكن أن يكون كل إنسان له مرتبة الكمال المطلوبة في الإنسانية وإن كان يفضل بعضهم بعضاً فأدناهم منزلة من هو إنسان حيواني ويشارك الإنسان الكامل بالصورة الإنسانية  وأعلاهم من هو ظل الله وهو الإنسان الكامل نائب الحق الذي يكون الحق لسانه وجميع قواه ومابين هذين المقامين مراتب)
  • يذكر ابن العربي أن الإنسان الكامل على صورة العالم ومختصره وهو روحه ايضاً وهو من جهة أخرى على الصورة الإلهية.
  • ويصف الإنسان الكامل أنه ( أعظم رحمة من كل مخلوق لأنه ظل الرحمن على الأرض فلا اعظم رحمة من الإنسان الكامل ولا أحد أشد بطشاً وانتقاماً من الإنسان الحيواني)
  • بهذه الصفة يحوز الإنسان الكامل صفة الخلافة فهو خليفة الرحمن الرحيم بين عباده فيقول(الإنسان الكامل خليفة الله في أرضه-فالإنسان الكامل هو ظل الله في خلقه من خلقه فعن ذلك هو خليفة ولذلك فالخلفاء خلفاء من مستخلف واحد (إني جاعل في الأرض خليفة) فإن الخليفة لا يظهر إلا بصفة من استخلفه)  حيث يكون تجل للصفات الإلهية . ويشير ابن العربي إلى الكمال والخلافة تتحقق فقط في الحياة الدنيا لأنها مكان التجربة والاختبار لا في الآخرة  لأن في الآخرة يكون الجزاء على عمل الخليفة
  • يقول شعراً في ذلك :

                                     إن الخلافة لا يكون كمالها     إلا هنا لا في الذي هو آتي

  • وُصف ابن العربي بأنه قد أثر في نهضة أوربة الدينية وفي مفكريها اللاهوتيين وأثر في خيال شاعرها دانتي ،وعبد السبل أمام اللاهوت المسيحي للنهوض والتحلل من القيود بل له آثاره في بعث الادب الأوربي ايضاً.
  • لاحظ المختصون في الفكر الفلسفي المعاصر وجود أوجه تشابه كثيرة بين هذا المفكر وفلسفات ما بعد الحداثة سواء في لغته المبتكرة، أو في نظرته الوحدوية والأنثوية إلى الوجود، أو في تطلعه إلي تحقيق منزلة الانسان الكامل.
  • هذا التطور الذي انتج رؤية فلسفية متكاملة تبلور فكرة الإنسان الكامل أو يمكن أن نقول أيضاً الإنسان العالمي الإنساني  والذي يقف على الطرف النقيض من الإنسان العولمي الأناني
  • ملا حظة مهمة أوردها هنا تشير كيف أن التجربة الصوفية الإسلامية بشقيها السلوكي والعرفاني قد تطورت من تشدد سلوكي بمحاربة النفس في بداية التجربة إلى المحبة الإلهية إلى الوصول للمعارف الإلهية العليا (العرفان) والذي يؤدي إلى تخلق الخلق بأخلاق الحق أي التحقق بالصورة الإلهية التي ينبثق منها الإنسان الكامل ويحقق الخلافة عن الله في الأرض بناءً على الوعد الإلهي المسبق ( إني جاعل في الأرض خليفة)
  • نجد أنه يتولد لدينا خطاب إنساني متكامل يحيط بمجمل مناحي حياة الإنسان المادية والروحية لتتوافق مع روح هذا العصرحيث أن إنسان هذا العصر وخاصة في البلدان المتقدمة قد حاز على درجة عالية من الرفاهية وإشباع رغباته واستكمل أغلب متطلبات الحياة المادية ، وبدأ يستشعر بنداءٍ  يأتيه من الداخل وهو التوق والتعطش الروحي والذي أهمله طيلة الفترات السابقة
  • هذه دعوة الطبيعة أو الفطرة الإنسانية لكي نعيد التوازن بين المتطلبات المادية والروحية

     –   الصوفي المعتدل يحقق التوازن بين المتطلبات المادية و الروحية لكن الريادة هنا للروح        الإنساني الذي يقترن مع العقل السامي الحكيم في مواجهة وضبط الرغبات والنزوات النفسية المختلفة وهذه أعلى درجات الارتقاء في السلم الإنساني نحو الكمال

    – خرجت الحداثة كرؤية جديدة للعالم من رحم التحولات الكبرى التي شهدتها أوروبا العصر   الحديث وكانت هي أيضاً طرفاً في صناعة بعض وقائع تلك التحولات، وبميلاد الإنسان في الفكر الغربي الحديث نشأت أيدولوجيا إنسانية هي كناية عن نظرة جديدة للإنسان بوصفه ذاتاً مستقلة له كرامته وحقوقه بحيث يتمتع بهذه الحالة بالحقوق التي ترتبها إنسانيته الطبيعية الفطرية

  • يعلن الما بعد الحداثيون بأن الحداثة مشروع لم يكتمل لأنها تعتمد فقط على العقلانية  فالاتجاهات الحدسية و الماورائية مثل الصوفية تنفي  أولوية العقلانية

–  نجد ان العولمة تلتبس بجوهر الحداثة وهي شيء مرافق لها في مستوياتها وتعابيرها

يذكر رفائيل أرغولول إن عصرنا يجسد بشكل حي نتائج الفصل بين النظرية والتطبيق بين المثالي والتجريبي بين الروحي والمادي بحيث يمكن تلخيص نهاية القرن التاسع عشر بصورة عملاق أعرج .لقد قدمت لنا الحضارة الحديثة تراكماً علمياً وتقنياً لم يخطر ببال أحد في القرون السابقة .ولو اننا رسمنا حصيلة للقرن الأخيرلأمكننا أن نصل إلى النتيجة القائلة بأن هذا التطور العظيم في العلم والتقنية لم يرافقة تطور روحي مساو.

– يصف روجيه غارودي حركة الحضارة الغربية بوضعها الراهن أنها حضارات منكبة على انحرافات النمو للنمو ، والقوة للقوة، انحرافات تقودها إلى الدمار الذاتي فالنزعة الوضعية التي تقود إلى اليأس بسبب غياب الهدف والنزعة الفردية التي تفضي إلى حرب الكل ضد الكل وإلى توازنات الرعب كما هو حادث الآن.

– يذكر نصر حامد أبو زيد ( تطرح العولمة  نفسها سياسياً وثقافياً وحضارياً بوصفها الدين الاخير الدين الذي يمثل فيه السوق وشريعته الإله الجديد المسلح بأداة القوة التي لا تقهر أبداً ويستحيل على البشر مقاومتها أو التفكير ، مجرد التفكير في التصدي لجبروتها، إنها قوة قادرة على كل شيء فسلاحها المال والعلم والقوة العسكرية، التي تنتهك بسهولة فائقة كل الخصوصيات . أدوات هذا الدين للسيطرة هي حرية التجارة وتدفق المعلومات ومواعظه هي: الديمقراطية و حقوق الإنسان على المقاس الغربي الأميركي بصفة خاصة.

– إن ردود الفعل على العولمة اتجهت في منحيين متناقضين الاول منغلق يبحث عن الهوية الخاصة والتعصب لها بالتالي تعزيز الاثنية والاصولية والإقليمية  والانغلاق في إطارها خوفاُ من الانجراف في تيار العولمة (رد فعل لا واعي) الطريق الآخر هو النبش في المشترك العالمي الإنساني ، البحث في حقيقة الإنسان الجوهرية العميقة وحقيقة الحياة الذي يتجاوز كل الانتماءات الارضية إلى الانتماء للحقيقة الوجودية الكونية المنفتحة والتي لا خوف فيها من أي جرف عالمي ، على اندثار ذات او هوية لان الكل متصل بالكل في العمق، ليس هناك حواجز على السطح من عرق او طائفة اودين تفصلهم عن بعضهم .

ولكن هناك من يريد أن يهيمن وأن يستغل الآخر فهو بذلك انفصل عن حقيقته الإنسانية وطمسها بأنانيته وتضخيم ذاته الطامعة.

– تعود الصوفية من مصادرها الميتافيزيقية وبفكرها العرفاني لتقدم رؤية متكاملة عن الإنسان وحقيقته وعلاقته بالآخر، الخروج من عنف الحداثة المعولمة المنبثقة من النظرة المادية المحدودة للإنسان إلى لا عنف بعد الحداثة المنبثقة من النظرة الامحدودة للإنسان والتي يتكامل فيها جانبيه المادي والروحي، ليقدمها لعصر ما بعد الحداثة حيث أن الحداثة اتسمت بالعقلانية المفرطة فقدمت رؤى فلسفية للإنسان ونظاماً اجتماعياًُ وسياسياً تجسده اليوم الديمقراطية والتقنية الحديثة يعترف فيه العقل أن له حد والحقيقة لا حد لها وان هناك ادوات ماوراء عقلية نستطيع أن نصل من خلالها إلى الحقيقة وأن نعيشها بكليتنا. 

– إن التصوف هو الزيادة في الإيمان إلى أقصاه فهو الخروج من الإيمان المعتاد إلى الإيمان الغير اعتيادي إنه إيمان إبداعي حر لا حاجز فيه ولا واسطة بين العبد والرب، يقوم الصوفي باختراق الحجب التي تفصله عن الله الحجب المادية والحجب المعنوية والفكرية ، فهو يسير في طريق وعر صعب فيه معاناة ومجاهدة لرغبات نفسه الارضية ،وهو يعلم بعقله أن الله معه في بداية الطريق وفي نهايته وبذلك التصوف هو تجاوز الخصوصية القومية والعرقية والعائلية والدينية والطائفية إلى الخصوصية الإنسانية: الإنسان وجود خاص بذاته لأنه الصورة الإلهية والذي جعله الله خليفة له على الارض.. وبحكم هذا الفهم ليس هناك فضل لشعب على شعب أو أمة على أمة أو شخص على شخص إلا بالتقوى أي اتقاء السلبيات والتخلص منها والتقوي عليها.

– يقول روجيه غارودي:كان مارو مصيباً تماماً عندما كتب يقول ( سيكون القرن الواحد والعشرون قرناً دينياُ أو لن يكون) انتهى يعود غارودي ليقول:ذلك أن العالم لا يمكنه أن يعيش إلا إذا كان له بالنسبة لكل فرد من سكانه معنى وإن كان واحداً وتتجاوز هذه الضرورة كل دين خاص ، ولكن قدرنا سيكون فناء كوكبنا بفعل التصدع وانعدام المعنى إذا لم نعمل طبقاً لهذه الضرورة أياً كان منبتنا.

– ويقول أيضاً :إنهم كثيرون أولئك الذين يتطلعون في العالم المسيحي كما في العالم المسلم إلى توحيد قواهم ليبنوا معاً القرن الواحد والعشرين بوجه إنساني ، أي بوجه إلهي، باسم إيمان وحيد بصورة أساسية عبر تنوع العبادات و الطقوس

– وأخيراً أعيد أني لا أدعو إلى التصوف بل إلى الاستفادة من الصوفي العرفاني الذي ينطق بالحكمة والمعارف العميقة التي نحن أحوج مانحتاج إليها في هذا العصر،فالفلسفة الصوفية رؤية مستقبلية تصنع النموذج الامثل للإنسان الكامل لتُكوّن أرضية معرفية عميقة وشاملة تحقق التوازن بين المتطلبات الإنسانية المعنوية والروحية والمادية والتي تكشف عن القيمة الحقيقية للإنسان والكامنة فيه، لذلك نجد أن العلوم الإنسانية المتنوعة من علم النفس والاجتماع ، السياسة ، الإدارة والقانونية حتى الفيزيائية الكونية بدات تنهل من التراث المعرفي الصوفي العرفاني

فهذا كله يبلور فكرة الإنسان العالمي الطامح لهذا العصر والذي يقابل على الطرف الآخر مفهوم الإنسان العولمي الطامع 

فالمطلوب هوالتعاون بين الغرب التقني والشرق الروحي والوصول إلى الإنسان الكامل الإنسان العالمي               وأختم حديثي مقطع من إحدى التجليات الإلهية لابن العربي  من كتاب التجليات حيث يخاطب الرب عبده

 تحت عنوان تجلي الكمال:

اسمع يا حبيبي أنت العين المقصود من الكون

أنت نقطة الدائرة ومحيطها

أنت مركبها و بسيطها

 أنت الأمر المنـزل بين السماء و الأرض

ما خلقت لك الإدراكات إلا لتدركني بها

 فإذا أدركتني أدركت نفسك .

                                                                                                                            خالد قطاع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أرض الطغانين (1) العلاج بالرسم الكرتوني والقصصي (1) العلاج بالفن (1) المملكة الإنسانية (1) حوارات جبتاوية (2) كاريكاتير إداري (1) كاريكاتير استبداد (1) كاريكاتير علاقات إنسانية (2) مقالات (2)

آخر المقالات