في المكان المناسب!!..

صديقي عزيز أحد أصدقائي الجهابذ المتخصص في عالم الإدارة والذي حصل على أعلى الشهادات في علوم الإدارة وراكم سنين من الخبرة العملية في إدارة كبرى المنشآت في بلد من بلدان الغرب الكافر. وفي لحظة حنين وطني مفاجئة قرر صاحبنا العودة إلى حضن الوطن ليكفر عن تقصيره بواجبه اتجاه بلده وليقدم خبرته لأهله وناسه الذين هجرهم لفترة طويلة.

وبعد طول عناء والتي امتدت لأشهر في البحث المكوكي عن وظيفة بين مؤسسات حكومية وخاصة ومنظمات، قبلت به إحدى المنظمات الإنسانية ذات التمويل والمعاشات المرتفعة، وهذا توفيق ما بعده توفيق وصار محلاً للحسد وطرق العين، أكيد أن العلاقات الشخصية لعبت دوراً في ذلك، فزوجة ابن خالة والده هي صديقة عمة زوجة ابن خال مدير هذه المنظمة، والتي تواسطت ودعمت عزيز في استلام وظيفته المنتظرة.

بما انني صاحب واجب مع أصدقائي المقربين خصوصاً أنه من الذين استلموا وظيفة مستقرة وأكيد أنها ضمن المناصب الإدارية العليا في المنظمة وربما سيكون من أصحاب القرار فيها، عقدت العزم على زيارته بنية المباركة وعسى أن يجد لي وظيفة عنده مستقرة تخرجني من مشقة الفريلانسر المتقطع اللامستقر، تأبطت جرزة ورد صناعي لأضعها على مكتبه تذكره بي فهي أدوم من الورد الطبيعي الذي يذبل بسرعة فيرميها ويرمي معها مطلبي منه.

وبالفعل بعد بحث طويل عن مكتبه وجدت الدكتور عزيز جالس أمام طاولة صغيرة في غرفة صغيرة وسط رفوف ملئت بالمصنفات والاضابير، بعد الاحتضان والعناق والسلام وضعت رزمة الورود على طاولته امام عينيه وقلت له:

  • العزيز عزيز ألف مبارك دكتورنا الجهبذ النحرير عصارة عقول الغرب في علوم الإدارة ومشتقاتها، أكيد استلمت منصب كبير في هذه المنظمة الضخمة الفخمة، وما هذا المكتب المتواضع إلا عن مكان مؤقت ريثما يجهز مكتبك الفخم اللائق بك وبمنصبك اليس كذلك؟.

أجابني عزيز وبنبرة متحسرة:

  • هكذا كنت أظن لكن يا عزيزي هذا المكان الصغير الهادئ هو مكتبي الدائم حسب منصبي الدائم

قلت باستغراب:

  • لكن منصبك مهم على ما اعتقد
  • نعم مساعد مدير دائرة أرشيف المنظمة يا صديقي
  • لكن كيف ذلك؟! أنت الخبير الإداري المعروف، ولديك سنوات من الخبرة والدرجات العلمية العالية. ما الذي أوصلك إلى هذا المكان؟

عزيز بابتسامة ساخرة:

  • نعم… تخيل، بعد سنوات من الخبرة والدراسات العليا، وجدت نفسي فجأة في وظيفة تُشبه تلك التي توكل عادةً إلى المتدربين حديثي التخرج. أعمل تحت إدارة شخص بالكاد يفرق بين الحاسوب وآلة القهوة!

قلت له:

  • من المفترض أنك في منصب أعلى بكثير ومكتب وفاخر ومساحة هادئة تتناسب مع كفاءاتك؟

عزيز بسخرية:

  • هه، دعك من هذا الحلم الرومانسي. مكتبي الحالي هو هذه الطاولة صغيرة قرب آلة الطباعة، حيث أستمع يومياً إلى ألحان الطابعة وهي تعزف سمفونية الورق العالق. إنه عمل فني حي!

قلت:

  • غريب جداً! وكيف اتخذ مديركم هذا القرار الغريب ؟

عزيز:

  • المدير؟ نعم مديرنا العزيز لديه فلسفة إدارية فريدة، يرى أن الموظف الجيد هو الموظف الذي “يعمل في كل شيء إلا تخصصه”. هل أنا خبير في إدارة المشاريع؟ نعم. هل أعمل في إدارة المشاريع؟ بالطبع لا! أنا الآن مسؤول عن طباعة تقارير أسبوعية ونقل الملفات بين الأقسام.

قلت:

  • أليس ذلك سبباً كافياً للشكوى؟

عزيز باستياء:

  • الشكوى؟ لقد حاولت ذلك مرة واحدة، فاستقبلني المدير بنظرة لم أر مثلها في تاريخي المهني. نظر إليّ كأنني أحمق، وسألني ببلاهة مشبوهة: “لماذا تتذمر؟! ألم أقل لك إن التنوع في المهام هو طريقك للنجاح؟” وكأنني جديد في هذه الحياة مع أنني أفوقه علماً وخبرة عمل

قلت:

  • لكن، لا بد أن هذا الوضع يؤثر سلباً على الإنتاجية، أليس كذلك؟

عزيز بضحكة ساخرة:

  • الإنتاجية؟ يا صديقي، نحن هنا في مملكة العبث الإداري، حيث الإنتاجية مصطلح غريب يُستخدم فقط في تقارير نهاية العام. المدير يقول: “أهم شيء هو أن الجميع مشغولون”، لا يهم بماذا ننشغل، الأهم أن تبدو مشغولاً؛ حتى لو كنت تقضي يومك في ترتيب الملفات حسب اللون!

قلت:

  • وهل تعتقد أن المدير يشعر بمدى معاناتك؟

عزيز بتهكم:

  • طبعاً لا! المدير يعاني من حالة فريدة تُعرف بـ”غفلة الإحساس الإداري”. بالنسبة له، أنين الموظفين هو مجرد موسيقى تصويرية لطيفة تؤثث المكان. “لماذا تتألمون؟” يسألنا باستغراب، “أليس لديكم مكاتب وطاولات؟” كأنه يعتقد أن الآلام والأوجاع مجرد ديكور جانبي!

قلت منفعلاً:

  • هذا فعلاً مثير للسخرية… ما الذي تتوقع أن يحدث مستقبلاً في هذه المؤسسة؟

عزيز يتنهد باستياء:

  • المستقبل؟ أتوقع أن تستمر المؤسسة في دوامة العبث هذه، وربما تتطور الأمور ليصبح الحارس مدير الموارد البشرية، والمدير المالي مشرفاً على الكافيتيريا. سيكون هذا تحقيقاً فعلياً لرؤية “التنوع الإداري”. أما أنا، فسأبقى هنا، أحتسي القهوة وأراقب هذه الكوميديا السوداء.

قلت بإحباط:

  • يالحظي العاثر أتيت إليك وكلي أمل أن تتواسط لي بوظيفة عندكم في مجالي بالمحاسبة.

عزيز وهو يضحك بسخرية:

  • طلبك عندي لدينا شاغر في المكتب الإعلامي للمنظمة

قلت باستغراب شديد:

  • لكنها ليست ضمن اختصاصي أنا لا أفقه شيء في مجال الإعلام

ضحك غزيز حتى كاد يقلب عن كرسيه وقال:

  • ومن منا يعمل ضمن اختصاصه أيها الصديق الغالي ومن منا يفقه في المجال الذي يعمل به .. سأتحدث بشأنك مع زوجة ابن خالة والدي والتي هي صديقة عمة زوجة ابن خال مديرنا المبجل والتي كانت سبب تعييني في هذا المنصب المهم،

قلت له باستحياء:

  • لكن لا أريت أن اتسبب لك بحرج من اجل تعييني كوني صديقك

عزيز بسخرية:

  • أي حرج يا رجل كل المدراء وسكرتيراتهم إما من الأقرباء المباشرين للمدير أو أقرباء أعضاء مجلس إدارة المنظمة، وجميعهم ليس لديهم أي مؤهلات للمناصب التي استولوا عليها.

لذلك سأتحدث من أجلك مع قريبتي البعيدة، علك تنضم إلى قطيع موظفي مؤسستنا وتعمل في مكتب الإعلام ومشتقاته تحت يد مدير كان يعمل في مجال الأجبان ومشتقاته..وبذلك تكون في المكان المناسب!!؟….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أرض الطغانين (1) العلاج بالرسم الكرتوني والقصصي (1) العلاج بالفن (1) المملكة الإنسانية (1) حوارات جبتاوية (2) كاريكاتير إداري (1) كاريكاتير استبداد (1) كاريكاتير علاقات إنسانية (2) مقالات (2)

آخر المقالات